“إيرا” و “فلام” بين المناورة و ضرورات المرحلة / الولي ولد سيدي هيبه

لا شك أن ما ميز الأسابيع المنصرمة من تطورات نوعية في مشهد سياسي كئيب و رتيب يدعو إلى شحذ روح التأويلات و الاستنتاجات لدى المحللين السياسيين و الإعلاميين و المتابعين باهتمام للشأن الداخلي الموريتاني المعقد والمربك و مدها بنفس استقصائي جديد.
لا يمكن بالطبع اعتبار عبور أعضاء و منهم المؤسس في حركة “إيرا” الصاخبة الغير مرخصة و آخرون من قيادات حركة “فلام” ذات الفكر الذي ظل إلى غير بعيد “انفصاليا” حاد اللهجة و الغير مرخصة هي الأخرى، عتبات القصر الرمادي و ولوج فضاء الاستقبال و اللقاء فيه “خرجة” عابرة للنظام و لا بالأحرى هي كذلك بالنسبة لحركتين أبليتا في الميدان “المقاصدي” إن جاز التعبير بلاء عظيما و قضتا مضاجع أنظمة و أربكت سياسيين و أعادت ترتيب كل أوراق سياسات البلد و توجهاته.
و لا يمكن القبول أيضا “بتقزيم” الحدث من حيث الدلالات و المضامين و المقاصد كما قدر لبعض الرأي أن يفعل و إن كان أسس لذلك ـ على ما استنتج ـ بأنه محاولة النظام قطع الطريق أمام المعارضة متمثلة أساسا في أحزاب “المنسقية”؛ و إن ذلك يحصل بوجه ما يتراءى في قابل الأيام من انطلاق استحقاقات شاملة تنقل ـ حين استكمالها ـ البلد إلى مرحلة جديدة من عمر الدولة المستقلة في أحضان الخيار الديمقراطي الذي و إن قدر و تكللت بمقتضياته تلك الاستحقاقات بالنجاح في أجواء تطبعها الشفافية و حياد الإدارة و الجيش جارية على نسق ذلك سفنها بما يشتهي الشعب المثخن بجراحات التجارب الفاشلة و عفن أجواء ظلت و ما زالت تحمل من ماضي الأمة المجيد أسوأ ما فيه منذ أن كان لها الاستقلال.
و مع أن توجه النظام إلى اللعب في دائرة الخصم و استحداث بؤر يفت من خلالها في عضد معارضيه جائز من الناحية السياسية إذا لم يمسس بثوابت اللعبة إذ السياسة كذلك، فإن الحال لا يضمن في كل الأوجه نجاح الأمر إذا ما اعتبرنا أن الرد بالمثل أو أكثر في نفس دائرة الحصانة من الإخلال بالقواعد أمر متوقع في كل الأحوال. و لأن الأمر هنا متعلق بحركتين تنشطان بقوة التحدي و الخروج على الضوابط دون ترخيص و قفزا صريحا فوق الأطر الحزبية التي هي الوعاء الشرعي الوحيد الذي تعترف به الديمقراطية في مفرد و مجمل التعاطي السياسي، فإن اللعبة تكون بذلك قد دخلت حيزا جديدا يحمل من الإيجابيات قدر ما يحمل من السلبيات و يفتح الباب أمام مراجعة كل هذا المعطى السياسي من حيث إعادة صياغة الخطاب و مراجعة السياقات الفلسفية و تعديل البرامج و الخطط بكل أبعاد المتطلبات المنبثقة أصلا من القناعات و الثوابت إلى مدارك المعطيات المستجدة و فهم كل دوافعها و مآلاتها؛ و في هذا فإن الحركتين “إيرا” و “فلام”، بفعل تحركهما “الإستنجادي” في الخارج و في دول الغرب منه تحديدا، استطاعتا توسيع مداركهما و تكيف مساعيهما مع ما يتيحه التطور الهائل في العقليات عموما و خصوصا فيما منه متصل بمعالجة القضايا الحقوقية من جهة و نضال الأقليات المتظلمة من جهة أخرى.
كما أنه إدراكا عميقا من الحركتين بضرورات المرحلة التي تدفع بالبلاد إلى حتمية النظر بإمعان و بجدية ثم بالشروع عمليا في تسوية كل الملفات الكبرى العالقة كـ إشكالية “الاسترقاق” و أبعاد و تداعيات “الإرث الإنساني” و مخاطر “الفساد” على تنمية البلد العالق في الخمائل و الخيوط الواهنة لـ”تهافت” كل الفاعلين السياسيين على نزوة السلطة و آنيتها و كأن لسان حالهم يقول “نحن و من بعدنا الطوفان” غير آبهين بأن سيول الصحاري لا تدوم حتى تجف.
و إنه من المؤكد أن دخول هاتين الحركتين الساعيتين على ما بدأ يتكشف من رغبتيهما الدفينة في الانتقال من مرحلة الطابع النضالي المحض إلى الإطار الحزبي المنظم و المضبوط الذي وحده يمكنهما من ولوج قبتي البرلمان لإسماع صوتيهما بما يسعيان إليه من قوة الإقناع و قدرة انتزاع الحقوق على منبريهما و تحت قبتيهما حيث يجتمعون مع الممثلين عن كل شرائح الشعب و مختلف جهاته.
و في موازاة هذا التحول في التكتيك و التموقع تقف حقيقة أخرى طرفاها النظام بأغلبيته و المنسقية بكل ألوان طيفها؛ حقيقة تجد أبهى صورها في اعتبار اصطفاف الحركتين إلى جانب كل منهما إنما يكون بمثابة ضمان كسب رهان الحكم في المرحلة المقبلة. و لكن فيما كانت المنسقية قد تبنت خلال الفترة السنوات الثلاثة الماضية إلى حد بعيد بعض أهم محاور خطابيهما حول الاسترقاق و الإرث الإنساني و قد سعت على إثر ذلك إلى احتضانهما برداء “أبوة” غير معلنة خاب على إثر التمرد عليها الأمل في الاستقواء بهما، فإن فتح النظام قنوات اتصال مع ذات الحركتين هو في بعض أوجه البادرة نوعا مماثلا من العمل على إضعاف الخصم المنتظم و لكن على العكس بمنح “إيرا” و “فلام” أطرا حزبية مرخصة و مفوضة بالتالي لجمع أصوات الشعب عند الاستحقاقات. إنها بهذا المنطق قنوات اتصال تفتح في ظرف دقيق حيث الأمور تتجه إلى إجراء انتخابات شاملة أعدت لها تقريبا كل الوسائل و الأدوات و هيئت لها الأطر التنظيمية و القانونية المطلوبة. و ها أن مد و جزر أمواج بحر هذه الاستحقاقات اللجي بدأ يميط الغطاء عن رغبة لدى الجميع في ساحة السجال في ركوب “موجة” سعي الحركتين إلى تفعيل قدراتهما الانتخابية للاستفادة القصوى من حصيلة عمليهما في ظل النضال الحركي الذي تعتبران بحسب ما يصرح به زعماؤهما أنه آتى أكله و قد حان قطف ثماره يانعة.
و يبقى القول واردا ، على الرغم من الأطماع السياسية لكل الأطراف في الميدان، أن البحث عن كل ما من شأنه توطيد اللحمة الوطنية و تكريس السعي الجاد إلى إيجاد دولة القانون و المواطنة أمر مستساغ بل و مطلوب بكل السبل المشروعة و المنطقية و لكن شريطة أن ينحسر في إطار الاحترام الصارم للدولة وثوابتها و عندها و في ذلك فقط فليتنافس المتنافسون.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.