قال الله سبحانه وتعالى: ﴿لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْويهُمُ إِلاً مَنَ اَمر بِصَدَقَةٍ اَوْ مَعْرُوفٍ اَوِ اِصْلَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُوتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [سورة النساء : 113].
تحية مستحقة بمناسبة العيد الدولي لحرية الصحافة لكل من اختار ـ بشرف ـ مهنة المتاعب، ليكون نصيرا للمستضعفين وصوتا للمظلومين وصادعا بالحق في وجه كل متسلط جائر.
بداية تلزمنا الموضوعية بأن نشيد بما تحقق في عهد النظام الموريتاني الحالي من خطوات تساهم دون ريب في دعم الصحافة وتوسيع مجال حرية التعبير؛ مثل تحرير الفضاء السمعي البصري وإلغاء عقوبة الحبس بسبب ما ينشر وإنشاء صندوق لدعم الصحافة، دون أن نغفل هنا تلك التراكمية سواء في بعدها النضالي أو في أبعادها الرسمية والإدارية أو حتى الطبيعية التي مهدت لتلك الخطوات.
فشكرا للسلطة الحالية، ليس لأنها قامت بواجبها، فحتى هذا لم تقم به كله، بل لأنها تخلت عن ممارسات مشينة قامت بها أنظمة سابقة مثل سجن الصحفيين ومصادرة الصحف..
بيد أن تخليد اليوم العالمي لحرية الصحافة يشكل سانحة للحديث عن بعض المنغصات والنواقص التي لا تزال تعيق قطاع الصحافة عندنا ـ بشقيه المستقل والعمومي ـ عن أداء واجبه كسلطة رابعة لا غنى عنها لتحقيق الديمقراطية والعدالة.
الصحافة المستقلة
لا يزال هذا القطاع يئن تحت وطأة التمييع وإغراقه بالمتطفلين، الشيء الذي أدى إلى غياب مؤسسات إعلامية حقيقية رغم محاولات من بعض ذوي النوايا الحسنة. وهي محاولات تضيع أحيانا بين مضايقات الأنظمة وعدم تشجيع المجتمع. فالحاجة لا تزال ماسة لوضع خطط وتشريعات تنظم هذا الحقل وتضبط آليات ممارسة مهنة الصحافة، وتجرم السرقات الإعلامية وتحفظ الملكيات الصحفية وتضمن نفاذا عادلا إلى الإعلانات الإشهارية خاصة الحكومية.
وهنا أشير إلى أن الصندوق الذي أنشأته الحكومة كان خطوة مهمة، لكنه ـ إضافة إلى أن البعض استنقص المبلغ ـ فإن آلية التوزيع التي اعتمدت لم تكن شفافة فحدت من جدوائية هذا الصندوق.
لذا من المفيد أن تعتمد الحكومة آلية جديدة تجعل الاستفادة من الصندوق مضمونة، فمثلا تعلن السلطات أن مخصصات الصندوق ستوجه ل10 مؤسسات إعلامية تكون الأفضل حسب ترتيب ينشر نهاية كل عام، ووفق معايير واضحة، مثلا بالنسبة للصحف يعتمد معيار مستوى المبيعات وعدد المشتركين، وبالنسبة للمواقع عدد القراء، هذا إضافة إلى شروط المأسسة الإدارية والقانونية الأخرى.. فهذه معايير واضحة وإن اعتمدت سيتميز الطيب من الخبيث، وسيذهب الزبد ويبقى ما ينفع الناس..
الإعلام العمومي
من الضروري هنا أن نضع نصب أعيننا أن الهدف الأول والذي من أجله صرفت الأموال الباهظة على مؤسسات الإعلام العمومي هو إخبار المواطنين بالمستجدات وإطلاعهم على الأخبار التي تهمهم، وهنا يجدر بنا التساؤل: هل الوكالة الموريتانية للأنباء والتلفزة الموريتانية وإذاعة موريتانيا يطلعون المتلقي الموريتاني على ما يبحث عنه من أخبار؟ أعتقد أن الجواب سيكون وبنسبة كبيرة بالنفي.
ولعل مرد ذلك بالدرجة الأولى هو أن هذه المؤسسات تحاول أ تفرض وصاية على المتلقي فتختار له أخبارا بعينها وتحجب عنه أخبارا أخرى، لذلك غابت الثقة بين المتلقي وهذه المؤسسات، فعزف عنها وطفق يبحث عن وسائط إعلامية أخرى تعطيه الحقيقة أو جزء منها.
فليس من المنطقي على سبيل المثال أن تحدث جريمة بشعة تهز العاصمة أو نزاع دموي يسقط فيه جرحى، أو اعتقالات، أو مظاهرات أمام الرئاسة أو إضراب في قطاع معين أو تظاهرة سياسية ما، ويتم تجاهل ذلك من طرف الإعلام العمومي، في حين ينقل أخبار ليس مهمة لدى المتلقي وبعضها عفا عليه الزمن مثل بريد رئيس الجمهورية وبرقيات التهانئ بمناسبة الأعياد الوطنية وورشة يفتتحها أو يختتمها وزير أو مسؤول هنا أوهناك.
ولا أقول هنا إن نشاطات الحكومة ليست مهمة بشكل عام لكن أهميتها تتفاوت، وفي نفس الوقت فإن الحراك السياسي والنقابي والاجتماعي مهم أيضا لدى الرأي العام، لكن يمكن للمؤسسة الإعلامية عندما تنقل خبرا عن احتجاجات أو تظاهرات أن تقدم في نفس الوقت وجهة النظر الأخرى، من خلال استضافة مسؤول من القطاع المعني بالاحتجاج. وإن كانت قضية اجتماعية لها سلبياتها على المجتمع مثل نزاع قبلي أو عرقي؛ يمكن استضافة فقيه أو خبير لتنوير الرأي العام حول خطورة هذه الواقعة على المجتمع. لكن ليس الحل في تجاهل الخبر، فذلك لن يحجبه، بل سيساهم في خلق الشائعات حوله، وسيتم “استهلاكه” بطريقة غير آمنة وقد تكون لها تداعيات غير محمودة العاقبة.
توصيتان
الأولى إلى الحكومة: فلا شك أنها تدرك أن حرية الصحافة مكسب وطني لا ديمقراطية ولا عدالة ولا تنمية بدونه، وبالتالي فعلى الحكومة دعم الصحافة بشكل جدي بعيد عن منهج الانتقائية. فاستهداف بعض الصحافة أو الصحفيين لأنه محسوب على هذه الجهة أو تلك لا يخدم المصلحة العليا، ومحاولة كل نظام خلق صحافة خاصة به لن يجدي نفعا، بل سيضر الصحافة ولن يغني عن النظام شيئا.
وهنا أفتح قوسا لأقول إن تجديد النخبة بصفة عامة (السياسية أو الإعلامية) ليس قرارا إداريا يتخذه رئيس أو وزير في مكتبه، فالنخبة ستجدد طبعا ولكن مع الوقت وبواسطة تراكمات وتجارب وليس بولادات قيصرية…
التوصية الثانية لزملاء الصحفيين: إن ما تحقق في موريتانيا من إنجازات واضحة للعيان في مجال حرية الصحافة يعود الفضل فيه بعد الله سبحانه وتعالى، إلى تضحياتكم، فلا تهنوا ولا تحزنوا وواصلوا النضال واعلموا أن الحرية تنتزع ولا تعطى، والسلاح الأول في ذلك هو المهنية والإرادة الصادقة ونبل المقاصد.
وهنا ألاحظ أن البعض من الصحفيين عندنا تكبلهم الرقابة الذاتية وغياب الطموح، فلو تسلح كل واحد منا ومن موقعه بالإرادة القوية التي تحصنه من الخضوع للإكراهات لتغير الكثير واتسع هامش الحرية، ولتحسنت حال العاملين في الحقل ماديا ومعنويا..